لايزال شيخنا الجليل د. عائض القرني مستميتا في الدفاع عن شاعريته، التي استنفر لها كل طاقاته المتسعة في قصيدته (لا إله إلا الله)، حيث ورد قبل أيام على صفحات هذه الجريدة حديث صارخ ممعن في الرفض يشجب فيه انتقاد الأستاذين قينان الغامدي وعبده خال لقصيدته تلك. ولست هنا في صدد الدفاع أو الهجوم على انسان ما لاعتبارات شخصية وانطباعية ومزاجية، فليتني أقدر على الدفاع عن نفسي أمام تخرصات الأقربين أولا، ولكن الحق أولى ان يتبع دائما، خاصة وان الشيخ عائض قد نقل أدواته المعرفية هذه المرة إلى أرض ثقافية أدبية نعرفها حق المعرفة، ولذلك فأنا وهو ومحاوروه في فضاء مشترك، أحاول أن ألخص مقاربتي له في النقاط الآتية: 1- حقا فلم أجد أثرا لشعرية ما -بالرغم من سمو المواضيع وجلالها- في قصائد الشيخ عائض، وحتى في قصائده الأخيرة، وأنا استحضر كل ماقيل عن المسألة الشعرية في ذاكرتي، ابتداء من قول الجاحظ: «انما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير»، وإلى القرطاجني وشيخنا الأسبق عبدالقاهر الجرجاني وأقرانهم جميعا، وحتى المشتغلين بالهاجس الشعري في الثقافة الأخرى، إذ الشعر بحسب شكلوفسكي «ينزع الألفة عن الأشياء التي أصبحت متعددة أو أتوماتيكية»، وإيخنباوم الذي يقول: «ما إن تدخل الكلمات حيز الشعر حتى تصبح محاطة بهالة جديدة من المعنى..» وجاكبسون الذي يعرف الشعر بأنه «عنف منظم مقترف بحق الكلام العادي..». الشعر -بالفعل- هو التغريب العاتي لمعيارية اللغة المألوفة، وهو تلك المسافة من التوتر اللفظي والدلالي التي يصنعها النص الشعري الحقيقي لإنتاج ذلك الأثر الخالد وتلك الدهشة الفاتنة.. ولذلك فقصيدة الشيخ الجليلة موضوعا ليس لها من الشعر الا بعض وزنه وقافيته، فالشيخ لو أرادها كلاما ساميا.. نظما.. خطابا ابتهاليا شعبيا لقبلناها مع التقدير، ولكنه ارادها شعرا ودافع عنها (شعرا)، وهي في الحقيقة ليست شعرا.. على الاطلاق. ثمة نصوص عديدة كتبت في تجليات دينية رفيعة وكانت متزامنة حقا مع لحظة الشعر.. أتذكر منها أخيرا قصيدة الشاعر محمد الثبيتي في جلال مكة داخل قلب كل مسلم مؤمن: «صبحتها والخير في أسمائها/مسيتها والنور ملء سمائها/حييتها بجلالها/وكمالها/وبميمها وكافها وبهائها/وغمرت نفسي في أقاصي ليلها/فخرجت مبتلا بفيض بهائها/وطرقت ساحات النوى/حتى ظمئت الى ثمالات الهوى..».ولكن الشيخ عائض يأتي في لحظة بعيدة عن زمن الشعر ليقول: «لااله الا الله أبدأ بها حق وصواب/كلمة من عالم الغيب ربك جاء بها..» ولابد ان القارئ لاحقا سيعرف حتما الفرق الجلي بين الطرحين اللغويين. 2- يقول الشيخ عائض: «ان قينان وخال لايستطيعان تقييم القصيدتين لأنهما ليسا شاعرين، ولو مكثا ليالي لينظما بيتا واحدا لما قدرا»، واقول: ان المسألة التي تفصل بين قينان وخال معا وعالم الشعر هي مسافة قريبة، فقينان الغامدي رائد من رواد صحافتنا المحلية التي لطالما أشرع نوافذها لتلقي كل شاهد أدبي خالص، وعبده خال مثقف استمرأ التعاطي مع الأدب وأجناسه منذ مايقارب الثلاثة عقود من الزمن كاتبا وقاصا وروائيا، فمن كتب(الموت يمر من هنا) و(الطين) و(فسوق) وأخيرا (ترمي بشرر) قادر -ولاشك- على معرفة المستوى الشعري لما يكتب وينشر. أتعرف شيخنا الجليل أن ثمة تداخلا حقيقيا بين(السردية) و(الشعرية) في الأدب عامة، وان عملا روائيا حواريا ما ربما يحتضن الكثير من أجناس الأدب، ومنها الشعر، كما ان عبده خال يصنف ضمن الروائيين الذين يعملون اللغة الشعرية في معظم أعمالهم السردية. أما قول الشيخ بأن قينان وخال «لو مكثا ليالي طويلة لكتابة بيت واحد لما استطاعا» فإني أوافقه، لأن هذين الكاتبين لم يقدما نفسيهما مرة بكونهما شاعرين، فقينان (مرتبط) بعلاقة مع الصحافة لا أحسب أنها تنفك أبدا، ولو ظل يكتب المقالة اليومية حتى آخر مراحها، وخال لاأظن أنه سيفيق من غيبوبته الروائية المدهشة حتى آخر رواية على وجه الأرض. أما شيخنا الفاضل فأني أعلم قربه من موروثنا الشعري العربي تلقيا وقراءة فحسب، وليس تفاعلا نصوصيا وإبداعا فنيا وإعادة إنتاج، وبالنسبه الى كتابه (لاتحزن) الذي يصنف ضمن إنتاجه الأدبي، فإني أزعم (بساطة) محتواه المعرفي والأدبي الذي يتناسب مع بساطة ذهنية التلقي البسيطة، وانه -بالتأكيد- خاطب بكثافة خالصة عواطفنا (الحزينة) حقا بفعل تجليات خطابات الصفوة والصحوة، التي لاأشك أن الشيخ يعرف تفاصيلها حق المعرفة. 3- أما قول شيخنا الجليل: «لو أحضرنا عجوزا من نيجيريا تبيع الفصفص لعرفت في الشعر أفضل منهما» فإني أحاوره بقولي: ولماذا لايكون ذلك كذلك؟ أليست تلك العجوز انسانة تحس وتشعر وتتألم وتعبر بالشعر أو بغيره؟ أليست الشعر حالة وجدانية هائلة تتدفق بكلمات هائلة بالضرورة؟ ألم يقرأ الشيخ مثلما قرأنا وسمعنا ونحن نبدأ نتهجأ جلال الله في الكون الرحيب قول أحد خلق الله المكرمين من ذوي الثقافة البسيطة: «يارب زمزم والصفا والحطيم/تغفر ذنوب العبد ذا..» وفي مديح المصطفى: «حوضك الصافي المبرد/شربنا يوم النشور/مارأينا العسي حنت/بالسرى إلا إليك..» ثم أليست تلك الشواهد اللغوية الدينية أكثر التصاقا بروح الشعر من قصائد شيخنا القرني ذاتها؟ 4- لاأدري فلماذا لم أتقبل ان يناجي عبد ما ربه الأعلى الأجل بقصيدة ترفع لها البارق وتحشد لها الجوائز (المليونية) وتعرض للمنافسة والمجاراة.. ارى ان ذلك الموضوع -بالذات- حالة خاصة بين العبد وربه، ربما يعبر عن استكنانها في الأعماق المؤمنة بكلمات لكأنها الشعر الخالص ذاته بدون الحاجة الى كل تلك الاعلانات.. أتساءل هل أن الشيخ يثق -قبل ثقته المطلقة بشاعريته- بشعوره الايماني إلى هذه الدرجة التي تجعله يطمئن على عدم دخول مثقال ذرة من كبر، ربما تقوده الى ماخفي من نواقض العقيدة والايمان؟؟ سلمه الله من هكذا مسلك، وهو الذي عرض الملايين ثمنا لمن قدر على مجاراة قصيدته تلك، وطالما دافع عنها وهاجم وافتخر بكون شهرتها «بلغت الآفاق»! اللهم أرنا
